بحث هذه المدونة

المتابعون

الأحد، 12 سبتمبر 2010

ماذا فعلنا بالبيئة


تعتبر حماية البيئة من أعقد قضايا العصر التي تستحوذ علي اهتمام المتخصصين في شتي المجالات ومختلف المجتمعات الإنسانية مهما تباينت نظمها القانونية والاجتماعية ، ذلك أنه بعد أن كان الاشتغال بقضاياها نوعاً من الرفاهية التي لا قبل لدول العالم الثالث بها أضحى وسيلة يلهث الجميع وراءها في محاولة يائسة لانقاذ كوكبنا الذي نعيش عليه من دمار وخراب محققين .

ولئن كانت البيئة Environment تعني " الوسط الطبيعي أو المحيط الحيوي الذي يعيش فيه الإنسان و باقي الكائنات الحية " ، فإنها تمثل في الوقت ذاته ، إحدي المشكلات الإنسانية والاجتماعية الحديثة نسبياً ، فالمخاطر التي تحيط بها وما يشوبها من تهديدات أضحت نوعاً من التحدي الذي يتعين علي الإنسان أن يواجهه ، فالإنسان هو الذي يصنع ويشكل بيئته التي تعطيه القوت وتمنحه الفرصة لتحقيق النمو الفكري والخلقي والاجتماعي والروحي .
ولقد بلغ الجنس البشري علي هذا الكوكب ، وهو في طريقه الطويل نحو التطور ، مرحلة اكتسب عندها الإنسان ، من خلال التقدم السريع للعلم والتكنولوجيا ، قدرة علي تحويل بيئته بطرق لا حصر لها ، وعلي نطاق لم يسبق له مثيل ، ويعد كل من جانبي البشـرية الطبيعي والاصطناعي أمراً أساسياً لتحقيق رخاء البشر وللتمتع بحقوق الإنسان الأساسية ، بما في ذلك الحق في الحياة ذاته .

والحقيقة أن البشرية قد تركت لنفسها العنان في تكييف وتطبيـع البيئة لرغباتها حتي جاوزت الحدود ، ولا يوجد أخطر مما يحدث الآن من إتلاف للبيئة إلي الحد الذي جعل من الصعب إصلاح ما تم إفساده ، وهو ما يهدد بأن تصبح الحياة علي كوكب الأرض قاسيةً للغاية لكافة المخلوقات  .

وإذا كنا نقول أن الحياة داخل البيئة تولد مشكلات وعلاقات لاتشغل فقط رجال العلوم البحتة ، بل أيضاً رجال العلوم الاجتماعية ، كعلم النفس ، وعلم الاجتماع ، والاقتصاد و القانون الذي هو وليد واقع الحياة الاجتماعية ، فإن علينا أن نعترف بأن الفقه القانوني قد تأخر نسبياً في التنبه إلي المشكلات القانونية التي تثيرها المخاطر التي تهدد البيئة .
فمنـذ كارثة تشـيرنوبل ، استفاق العالم عـلي مبدأ –كاد يستقر- مفاده أن المســاس بالبيئة في أية بقعة من بقع العالم لا يرتب آثاره علي تلك البقعة فحسب ، بل يمتد ليشمل غيرها من البقاع ، وأن هذا التلوث كفيل بأن يجر الهلاك علي ملايين من الآدميين ، سواء في صحتهم أو في غذائهم ، بعد أن نسوا أو تناسوا كارثة هيروشيما و نجازاكي والتي تعد من أسوأ الكوارث التي مُني بها نفرٌ من بني البشر .
وعندما أفاق الإنسان وجد واقعاً أليماً أمامه ، فلقد فسدت البيئة بالمبيدات ، وتلوث الهواء بالدخان والإشعاعات ، وتعكرت البحار ببقع الزيت النفطي ، وتسممت الأنهار بجثث القتلي في مذابح بشرية لم يسبق لها مثيل ، وبدأت الغابات تحتضر ، والسلالات تنقرض والطقس يضطرب ، والموازين الطبيعية تختل ، وظهرت أمراض جديدة لا براء منها ، وفيروسات فتاكة لاتري بالعين المجردة ولاينفع فيها علاج ، وأصبحت الحروب دماراً شاملاً وأصبح طفل اليوم يرضع من أثداء سامة .

ويمكن فهم وتقييم حجم التغيرات التي طرأت علي النظام البيئي للأرض من خلال إجراء مقارنة بسيطة علي خارطة العالم مبينا عليها حجم وموقع الثروات الطبيعية التي استثمرت بشكل مفرط خلال الخمسين سنة الأخيرة .
وفي تلك العلاقة الجدلية من التفاعل بين البيئة والإنسان ، سواء بالسلب أو بالإيجاب ، ومابين السعي لسيادة السلام والاستقرار واندلاع الصراعات ، تبرز حلقة جديدة من حلقات هدم البيئة وتدميرها ، وكيف أن تلك النزاعات البشرية الجامحة من أجل حب السيطرة وممارسة لعبة القوة والتفوق قد جعلت الإنسان يلقي وراء ظهره كل القيم والمبادئ ، ويلقي بنفسه في أتون بيئة مهلكة .
فعلي سبيل المثال ، أعلن رسمياً أن أثر حرب الخليج الأخيرة علي المنطقة يساوي أثر انفجـار المفاعل النـووي تشيرنوبل في الإتحاد السوفييتي قبل عدة أعوام ، حيث أسفرت تلك الحرب التي جرت في عام 1991 عن انسكاب نفطي كبـير وحرائق شاسعة في آبار النفط ، وقدر النفط المنسكب من محطات الشحن والسفن الغارقة التي يتسرب منها النفط في الجزء الشمالي من الخليج ما بين (4 & 8) ملايين برميــلاً .
وقد ألحق هذا الانسكاب الضرر بالمناطق الساحلية في بعض البلدان ، وأثر في المناطق البرية والأحياء المائية ، وتصاعد في هواء الخليج ما بين مليون ومليوني طن من غاز ثاني أكسيد الكربون مع الكبريت ، وتضاعفت أكاسيد النيتروجين وأول أكســــيد الكربون المنبعثة من الجزئيـــــات الكيميائية الدقيقة ( مائة ألف جزء لكل سنتيمتر مكعب ) .

وعقب أحداث تلك الحرب عرف العالم ، وبحق ، شكلاً جديداً من أشكال الإرهاب المعاصر ، هذا الشكل يتمثل في الإرهاب البيئي ، حتي أن خبراء البيئة أطلقوا علي تلك الحرب "جريمة العصر " بحسبانها أكبر كارثة بيئية يشهدها العالم ، وليس باعتبارها أضخم حرب ألكترونية في التاريخ  .
وفي حرب رواندا ، لم تقف المأساة الإنسانية عند قتل مئات الآلاف من المواطنين من القبائل المعادية لبعضها البعض ، ولكنها تفاقمت بترك الجثث تتعفن فانتشرت الأوبئة والأمراض ، ثم ألقيت الآلاف منها في مياه نهر النيل الذي يمر بالعديد من الدول الأفريقية .
وعلي كل ، فقد كان لجميع الحروب تقريبا استراتيجية أساسية واحدة ، هي تدمير نظم دعم الحياة لهزيمة الجيوش والشعوب ، وقد استخدم القصف الشامل للمدن ولبناها الأساسية علي نطـاق واسع في الحرب العالمية الثانية ، واستخدم القصف الواسع النطاق والتدمير الآلي والكيميائي للغابات والمحاصيل في الحرب الهندية الصينيةخلال الفترة من 1961 إلي 1975 وذلك لدفع المحاربـين ومؤيديهم من المزارعين إلي الخروج من مخابئهم وقراهم .

وقد عبرت العديد من المواثيق الدولية عن رفضها لذلك ، ونجد الميثاق العالمي للطبيعة المعروف بإعلان ستوكهولم يعبر عن ذلك بقوله :
" للإنسان حق أساسي في الحرية والمساواة ، وفي ظروف معيشية مرضية تسمح له بالحياة بكرامة ورفاهية ، وعلي الإنسان واجب مقـدس بحماية وتحسين البيئة للأجيال الحاضرة و المستقبلة " .
لذا فقد كان من الطبيعي أن الدول جميعاً ، سواء كانت مكتملة النمو أم آخذة في النمو ، اجتمعت علي إبراز المشكلة وأكدت علي ضرورة البحث عن حلول لها  ، فالبيئة تراث حضاري وميراث تاريخي ليس ملكاً للقائمين فيها الآن ، بل هو ملك للأجيال القادمة ، وعلينا أن نحافظ عليه ونسلمه لمن يأتي بعدنا نظيفاً غير ملوث كما كنا قد تسلمناه ممن قبلنا ، وألا رمتنا الحضارات القادمة بالسفه كجيل تسلم مقاليد بيئة نظيفة فلوثها وأساء التصرف فيها ، ومن هذا المنطلق كان إنشاء وزارة للبيئة ضرورة ملحة من أجـــل الندية الدولية والمبادئ الدستورية السالفة .
فلم يعد موضوع تلوث البيئة مشكلة إقليمية محصورة في منطقة دون أخري ، وإنما مشكلة عالمية وعلي العالم كله أن يسعي لمعالجة الآثار السلبية المترتبة عليها . وبذا ، فقد أضحت البيئة المرض المزمن للمدنية المعاصرة ولحضارتها الصناعية والتقنية ، واتخذ تلوث البيئة صورة ماثلة في كل مكان وفي كل شيء ، في الهواء ، والماء ، والبحار ، وفي المواد الغذائية ، وغيرها . وبالتالي أصبحت حماية البيئة والطبيعة وكذلك الحياة اليومية للسكان أمراً ضرورياً .

كما أكدت الدراسات الحديثة أن حماية البيئة أصبحت من أهم معايير تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مختلف الدول سواء المتقدمة أو النامية علي السواء ، وأصبح التقدم الحقيقي مرتبطاً بمعيار حماية الإنسان للبيئة والموارد الطبيعية التي يعيش عليها.
لذا كان حرياً بالعالم أن يتدارس الأسباب التي تكاد تعصف بكوكب الأرض و من عليه ، في محاولة للوقوف علي سبيل قد ينجيه مما هو مقدم عليه من خراب متوقع ، وأن تحتل حماية البيئة الصدارة بجوار المشاكل الملحة في المجتمعات الحديثة ، فتعددت اللقاءات و تناثرت المؤتمرات واحتشدت القوي في مواجهة ظاهرة تلوث البيئة .
ولقد أسهمت البحوث والدراسات المختلفة والاستراتيجيات البيئية التي تبنتها الدول والمنظمـات الدولية منذ انعقاد مؤتمر ستوكهولم للبيئة 1972 ، ومرورا بغيره من المؤتــمرات العديدة ، التي اهتمت بموضوعات البيئة التي تلف اهتمامات الإنسان في شتى بقاع العالم وتتعلق بالحفاظ علي صحته ورخائه ونمائه في إطار مما أصبح يسمى بالتنمية المستدامة ، أسهمت في إحداث تغيير ملحوظ في مفاهيم ومدركات الإنسـان حول أسس وطبيعة العلاقة مع الأنظمـة البيئيــة ، وأصبــح الوعي البيئي والثقافة البيئية المؤشـرين الحضاريين لتقـدم ورقي الشعوب .
وعندما تتفاقم الأخطار التي تهدد بيئة الإنسان ، يتدخل القانون الجنائي لبسط حمايته علي المجالات التي يحيا فيها وبها الإنسان وتكون محركاً لغرائزه الداخلية العدائية التي تترجمها جوارحه في أعمال عدوان تبدأ من عدوانه علي الإنسان وتتدرج إلي عدوان علي ماعداه ، من مخلوقات سواء كانت حيوانات أو نباتات أو حتي أشياء جامدة ، فالإنسان يسأل عما بقع منه من مخالفات في أفعاله وتصرفاته والتي من شأنها أن تشكل جرائم يمنع القانون ارتكابها ويضرب العقاب على شخص مرتكبهاويحمله تبعة أفعاله ليحقق ضبط السلوك الاجتماعي الذي هو من أهم أهداف القانون بوصف أن القانون الجنائي يستهدف حماية القيم الجوهرية للمجتمع والمصالح الأساسية .

0 comments:

إرسال تعليق

اخبار محلية

اخبار العالم

اخر المواضيع

المتواجدون الان